إرنستو تشي جيفارا
الموت أو الحرية سننتصرErnesto Che Guevara
Hasta La Victoria Siempre
________________
[center]"الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن..
إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني"..
ليس شعرا ولا كلمات لأديب من أدباء نوبل، وليست عبقريتها في صياغتها بقدر
ما أنها في صدقها، وأيا ما كانت أفكارك وعقائدك فإنك لن تستطيع إلا أن
تحترم رجلا كانت هذه إحدى أفكاره التي ظل طيلة حياته يناضل من أجلها.
لقد ولد صاحب هذه المقولة -وهو الملقب بالـ"تشي" التي تعني الرفيق واسمه
الحقيقي "أرنستو جيفارا دي لاسيرنا"- في الرابع عشر من أغسطس عام 1928، في
حي "روساريو" الكائن بمدينة "بوينس أيريس" عاصمة الأرجنتين في عائلة
برجوازية عريقة.
روح لا يصيبها الربو صورة الأب غير طاغية على المشهد فهو مهندس معماري، ميسور الحال، دائم
التنقل قضى آخر أيامه في كوبا، لكن الأم عُرفت بأنها مثقفة ونشطة وهي التي
نفخت في الفتى من روحها الشغوفة بتاريخ الأرجنتين، بل وأمريكا اللاتينية
كلها.. وربته على سِيَر المحررين العظام أو "آباء الوطن"، وعلى قصائد
الشعر لا سيما الشعر الأسباني والأدب الفرنسي.
كان الفتى النحيل الذي لا يتعدى طوله 173 سم يمارس الرياضة بانتظام
لمواجهة نوبات الربو المزمن التي كانت تنتابه منذ صغره. أما روحه فكانت
لاذعة ساخرة من كل شيء حتى من نفسه، وقد أجمعت آراء من اقتربوا منه أنه
كان يحمل داخله تناقصا عجيبا بين الجرأة والخجل، وكان دافئ الصوت عميقه،
كما كان جذابا وعبثي المظهر كذلك.
اضطرت العائلة إلى ترك العاصمة والانتقال إلى مكان أكثر جفافا؛ لأجل صحة
الفتى العليل، وفي أثناء ذلك كان اللقاء الأول بين أرنستو والفقر المدقع
والوضع الاجتماعي المتدني في أمريكا اللاتينية.
الطبيب في رحلة على الدراجة في مارس 1947 عادت الأسرة إلى العاصمة ليلتحق الفتى بكلية الطب، وعند
نهاية المرحلة الأولى لدراسته حين كان في الحادية والعشرين من عمره قام
بجولة طويلة استمرت حوالي 8 أشهر على الدراجة البخارية نحو شمال القارة مع
صديق طبيب كان أكبر منه سنا وأقرب إلى السياسة.
ومن هنا بدأ استكشاف الواقع الاجتماعي للقارة، وبدأ وعيه يتفتح ويعرف أن
في الحياة هموما أكثر من مرضه الذي كان الهاجس الأول لأسرته؛ فرأى حياة
الجماعات الهندية، وعاين بنفسه النقص في الغذاء والقمع.. ومارس الطب مع
عمال أحد المناجم وهو ما حدا بالبعض أن يصفه بأنه من الأطباء الحمر
الأوروبيين في القرن 19 الذين انحازوا إلى المذاهب الاجتماعية الثورية
بفعل خبرتهم في الأمراض التي تنهش الفقراء.
صائد الفراشات في جواتيمالا وفي عام 1953 بعد حصوله على إجازته الطبية قام برحلته الثانية وكانت إلى
جواتيمالا، حيث ساند رئيسها الشاب الذي كان يقوم بمحاولات إصلاح أفشلتها
تدخلات المخابرات الأمريكية، وقامت ثورة شعبية تندد بهذه التدخلات؛ ما أدى
لمقتل 9 آلاف شخص، فآمن الطبيب المتطوع الذي يمارس هواياته الصغيرة:
التصوير وصيد الفراشات، أن الشعوب المسلحة فقط هي القادرة على صنع
مقدراتها واستحقاق الحياة الفضلى.
وفي عام 1955 يقابل "هيلدا" المناضلة اليسارية من "بيرون" في منفاها في
جواتيمالا، فتزوجها وأنجب منها طفلته الأولى، والعجيب أن هيلدا هي التي
جعلته يقرأ للمرة الأولى بعض الكلاسيكيات الماركسية، إضافة إلى لينين
وتروتسكي وماو.
مع كاسترو في المكسيك غادر "جيفارا" جواتيمالا إثر سقوط النظام الشعبي بها بفعل الضربات
الاستعمارية التي دعمتها الولايات المتحدة، مصطحبا زوجته إلى المكسيك التي
كانت آنذاك ملجأ جميع الثوار في أمريكا اللاتينية.
كان قيام الانقلاب العسكري في كوبا في 10 مارس 1952 سبب تعارف جيفارا
بفيدل كاسترو الذي يذكره في يومياته قائلا: "جاء فيدل كاسترو إلى المكسيك
باحثا عن أرض حيادية من أجل تهيئة رجاله للعمل الحاسم".. وهكذا التقى
الاثنان، وعلى حين كان كاسترو يؤمن أنه من المحررين، فإن جيفارا كان دوما
يردد مقولته: "المحررون لا وجود لهم؛ فالشعوب وحدها هي التي تحرر نفسها".
واتفق الاثنان على مبدأ "الكف عن التباكي، وبدء المقاومة المسلحة".
حبنا الوحشي للوطن اتجها إلى كوبا، وبدأ الهجوم الأول الذي قاما به، ولم يكن معهم سوى ثمانين
رجلا لم يبق منهم سوى 10 رجال فقط، بينهم كاسترو وأخوه "راءول" وجيفارا،
ولكن هذا الهجوم الفاشل أكسبهم مؤيدين كثيرين خاصة في المناطق الريفية.
وظلت المجموعة تمارس حرب العصابات لمدة سنتين حتى دخلت العاصمة هافانا في
يناير 1959 منتصرين بعد أن أطاحوا بحكم الديكتاتور "باتيستا"، وفي تلك
الأثناء اكتسب جيفارا لقب "تشي" يعني رفيق السلاح، وتزوج من زوجته الثانية
"إليدا مارش"، وأنجب منها أربعة أبناء بعد أن طلّق زوجته الأولى.
وقتها كان الـ"تشي جيفارا" قد وصل إلى أعلى رتبة عسكرية (قائد)، ثم تولى
بعد استقرار الحكومة الثورية الجديدة –وعلى رأسها فيدل كاسترو- على
التوالي، وأحيانا في نفس الوقت مناصب:
- سفير منتدب إلى الهيئات الدولية الكبرى.
- منظم الميليشيا.
- رئيس البنك المركزي.
- مسئول التخطيط.
- وزير الصناعة.
ومن مواقعه تلك قام الـ"تشي" بالتصدي بكل قوة لتدخلات الولايات المتحدة ؛
فقرر تأميم جميع مصالح الدولة بالاتفاق مع كاسترو؛ فشددت الولايات المتحدة
الحصار، وهو ما جعل كوبا تتجه تدريجيا نحو الاتحاد السوفيتي وقتها. كما
أعلن عن مساندته حركات التحرير في كل من: تشيلي، وفيتنام، والجزائر.
تشي يتتبع رائحة الثورة وعلى الرغم من العلاقة العميقة القوية بين جيفارا وكاسترو، فإن اختلافا في
وجهتي نظريهما حدث بعد فترة؛ فقد كان كاسترو منحازا بشدة إلى الاتحاد
السوفيتي، وكان يهاجم باقي الدول الاشتراكية.
كما اصطدم جيفارا بالممارسات الوحشية والفاسدة التي كان يقوم بها قادة
حكومة الثورة وقتها، والتي كانت على عكس ما يرى في الماركسية من إنسانية..
فقرر الـ"تشي" مغادرة كوبا متجها إلى الكونغو الديمقراطية (زائير)، وأرسل
برسالة إلى كاسترو في أكتوبر 1965 تخلى فيها نهائيا عن مسؤولياته في قيادة
الحزب، وعن منصبه كوزير، وعن رتبته كقائد، وعن وضعه ككوبي، إلا أنه أعلن
عن أن هناك روابط طبيعة أخرى لا يمكن القضاء عليها بالأوراق الرسمية، كما
عبر عن حبه العميق لكاسترو ولكوبا، وحنينه لأيام النضال المشترك.
وذهب "تشي" لأفريقيا مساندا للثورات التحررية، قائدا لـ 125 كوبيا، ولكن
فشلت التجربة الأفريقية لأسباب عديدة، منها عدم تعاون رؤوس الثورة
الأفارقة، واختلاف المناخ واللغة، وانتهى الأمر بالـ"تشي" في أحد
المستشفيات في براغ للنقاهة، وزاره كاسترو بنفسه ليرجوه العودة.
خزانات المسدس والأقلام.. كلها رصاصبعد إقامة قصيرة في كوبا إثر العودة من زائير اتجه جيفارا إلى بوليفيا
التي اختارها، ربما لأن بها أعلى نسبة من السكان الهنود في القارة.
لم يكن مشروع "تشي" خلق حركة مسلحة بوليفية، بل التحضير لرص صفوف الحركات
التحررية في أمريكا اللاتينية لمجابهة النزعة الأمريكية المستغلة لثروات
دول القارة.
وقد قام "تشي" بقيادة مجموعة من المحاربين لتحقيق هذه الأهداف، وقام أثناء
تلك الفترة الواقعة بين 7 نوفمبر 1966 و7 أكتوبر 1976 بكتابه يوميات
المعركة.
وعن هذه اليوميات يروي فيدل كاسترو: "كانت كتابة اليوميات عادة عند تشي
لازمته منذ أيام ثورة كوبا التي كنا فيها معا، كان يقف وسط الغابات وفي
وقت الراحة ويمسك بالقلم يسجل به ما يرى أنه جدير بالتسجيل، هذه اليوميات
لم تُكتب بقصد النشر، وإنما كُتبت في اللحظات القليلة النادرة التي كان
يستريح فيها وسط كفاح بطولي يفوق طاقة البشر".
اللحظات الأخيرة حيث لا يستسلم أحدفي يوم 8 أكتوبر 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش
البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فردا، وقد ظل
جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات
في منطقة صخرية وعرة، تجعل حتى الاتصال بينهم شبه مستحيل.
وقد استمر "تشي" في القتال حتى بعد موت جميع أفراد المجموعة رغم إصابته
بجروح في ساقه إلى أن دُمّرت بندقيته (م-2) وضاع مخزن مسدسه وهو ما يفسر
وقوعه في الأسر حيا.
نُقل "تشي" إلى قرية "لاهيجيراس"، وبقي حيا لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل كلمة واحدة مع من أسروه.
وفي مدرسة القرية نفذ ضابط الصف "ماريو تيران" تعليمات ضابطيه: "ميجيل أيوروا" و"أندريس سيلنيش" بإطلاق النار على "تشي".
دخل ماريو عليه مترددا فقال له "تشي": أطلق النار، لا تخف؛ إنك ببساطة
ستقتل مجرد رجل، ولكنه تراجع، ثم عاد مرة أخرى بعد أن كرر الضابطان
الأوامر له فأخذ يطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل تحت الخصر حيث كانت الأوامر
واضحة بعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، إلى
أن قام رقيب ثمل بإطلاق رصاصه من مسدسه في الجانب الأيسر فأنهى حياته.
وقد رفضت السلطات البوليفية تسليم جثته لأخيه أو حتى تعريف أحد بمكانه أو بمقبرته حتى لا تكون مزارا للثوار من كل أنحاء العالم.
كيف رأوه؟ لقد اعتبر "جان بول سارتر" و"سيمون دي بيفوار" جيفارا التجسيد الحي
لعالمهم المثالي الذي لم يكن له وجود سوى في أفكارهم الفلسفية فقط. ويراه
اليساريون صفحة ناصعة في تاريخهم المليء بالانكسارات والأخطاء، وأسطورة لا
يمكن تكرارها على مستوى العمل السياسي العسكري، وهذا ما تؤيده مقولته
الرائعة لكل مناضل ومؤمن بمبدأ على اختلاف اتجاهه"لا يستطيع المرء أن يكون
متأكدا من أن هنالك شيئا يعيش من أجله إلا إذا كان مستعدا للموت في
سبيله".
وفي عام 1998 وبعد مرور 30 عاما على رحيله انتشرت في العالم كله حمّى
جيفارا؛ حيث البحث الدءوب عن مقبرته، وطباعة صوره على الملابس والأدوات
ودراسة سيرته وصدور الكتب عنه.
علامات استفهام مات جيفارا الطبيب والشاعر، عازف الجيتار والثائر والمصور الفوتوغرافي،
وصائد الفراشات.. وترك خلفه أسئلة عديدة، يرى الكثيرون أنها لن يجاب عنها
بسهولة قريبا، فلم يحسم حتى الآن أمر الوشاية بـ"تشي"، فهل كان الرسام
المتهم منذ أكثر من 30 سنة "بوستوس" الذي عاش منفيا في السويد، أم "دوبري"
المفكر اليساري.. لا أحد يعرف. كما أنه لا أحد يعرف أين قبر "تشي" الحقيقي
حتى وإن زعم البعض اكتشافه.. ولكن الحقيقة التي تظل ماثلة هي أن الجسد
الذي لم ينهكه الربو اغتالته الديكتاتورية، ولكن بلا شك فشل الجميع في
هزيمة روحه.
نشر فليكس رودريجيس، العميل السابق لجهاز المخابرات
الأميركية (CIA) من طريق الشبكة العنكبوتية صوراً لا سابق لها عن إعدام
تشي جيفارا. وتمثل هذه الصور آخر لحظات حياة هذا الثوري الأرجنتيني قبل
إعدامه بالرصاص ب"لا هيغويرا" في غابة "فالي غراندي" ببوليفيا، في 9
أكتوبر(تشرين الأول) من عام 1967.
وتظهر الصور كيفية أسر تشي جيفارا، واستلقائه على الأرض، وعيناه شبه
المغلقتان ووجهه المورم والأرض الملطخة بدمه بعد إعدامه. كما تنهي الصور
كل الإشاعات حول مقتل تشي جيفارا أثناء معارك طاحنة مع الجيش البوليفي.
وقبيل عدة شهور، كشف السيد فليكس رودريجيس النقاب عن أن أيدي تشي جيفارا بُترت من أجل التعرٌف على بصمات أيديه.
صورة رقم (1)
صورة رقم (2)
صورة رقم (3)
صورة رقم (4)
صورة رقم (5)
بين الرموز تحيا الأمبين عبد الناصر وجيفارا.. عمر من الأمل
كيف تتكون الرموز في وجدان الشعوب؟ وهل التعلق
بالرموز يقتصر على شعوب المتوسط المشهورة بحرارة العاطفة، أم ينسحب على كل
شعوب الأرض؟ وما الذي يضمن للرمز بقاءه رغم مرور السنين؟ بين رمزين من
رموز الحرية
والكرامة في الوجدان الإنساني، هما جمال عبد الناصر وتشي جيفارا، نحاول أن نجيب عن هذه الأسئلة قدر الإمكان..
[center]كلمة (الرمز) في اللغة تعني " الإشارة والإيماء سواء
بالشفتين أو الحاجب "، والكلمة – بهذا المعنى – بعيدة كل البعد عن المعنى
الذي اعتدنا استعماله للدلالة على (القدوة) و(المثل) في حياتنا، والحقيقة
أن تكوين الرموز وتمثلها لا يقتصران فقط على شعوب المتوسط، بل يمتدان إلى
الوجدان الإنساني أينما كان، وإن كانت تلك الحقيقة لا تنفي – أبدًا – قدم
الرموز في الثقافة الشرقية، بدءًا بالرموز الوثنية التي ابتدعها الإنسان
الشرقي القديم؛ لتحميه مما ظنه قوى شريرة تحاول إيذاءه، مرورًا بتطور
الرموز مع تطور الإنسان عبر العصور؛ لتصبح الرموز سياسية أودينية أوفنية
أو قومية، وانتهاءً بغلبة الرمز الديني في أغلب الأحيان، أو السياسي في
بعضها.
ويرتبط تكوين الرموز ارتباطًا مباشرًا بقيمة أو مبدأ إنساني، أو قوى
خارقة، أو حاجة الناس لتمثل حضور الرمز في لحظةٍ ما، ومن هنا.. تُصنَع
الرموز..
في حي باكوس بمدينة الإسكندرية يبدأ القدر في غزل خيوط أسطورة قائد
كاريزمي، سيملك على البسطاء أحلامهم وقلوبهم، حتى بعد وفاته بعشرات
السنين.. في ذلك الحي الشعبي، وتحديدًا في اليوم الخامس عشر من يناير من
العام ألف وتسعمائة وثماني عشر، وُلد الزعيم جمال عبد الناصر.. يستخدم
المصريون البسطاء كلمة (الزعيم) في الحديث عن عبد الناصر وحده دون غيره
ممن تولوا حكم مصر، ربما لأن تلك الكلمة تعبر عن قربه من أحلامهم البسيطة،
وإحساسه بآلامهم وآمالهم، بعكس كلمة (الرئيس) التي تشعرهم بالبُعد
والرسمية.. تبدو شخصية عبد الناصر محيرة لمن ينظر إليها من زاوية (الرمز)
لا (الإنسان)؛ فقد ظل بعد وفاته رمزًا من رموز الحرية والكرامة، لا في نظر
بعض المصريين فقط، بل في نظر الكثير من العرب أيضًا، رغم التجاوزات التي
حفل بها عصره، ورغم أخطائه التي اعترف هو ببعضها اعترافًا واضحًا صريحًا،
حين أعلن تنحيه عن كافة مهامه الرسمية بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، فما
الأسباب التي جعلت منه ذلك الرمز النقي الذي لم تلوثه السلطة؟
تدور الكاميرا ببطء؛ لتلقي الضوء على زاوية أخرى من الكرة الأرضية.. على
الأرجنتين في العام ألف وتسعمائة وثماني وعشرين، حيث يولد الطبيب الذي ما
عاد طبيبًا.. الثائر الذي ظل ثائرًا حتى بعد موته.. إرنستو تشي جيفارا..
الأرجنتيني الذي آمن إيمانًا مطلقًا بكرامة الإنسان في كل مكان من الأرض،
فتنقل من بلده إلى معظم بلدان أمريكا اللاتينية؛ مدافعًا عن الحرية ضد
القهر والقمع والاحتلال، فشارك فيدل كاسترو في الثورة الكوبية؛ للإطاحة
بحكم الديكتاتور باتيستا، واتجه يقوده إيمانه بالحرية إلى الكونغو
وبوليفيا، ليُقتل هناك برصاص القوات الحكومية البوليفية، وتآمر المخابرات
المركزية الأمريكية، في الثامن من أكتوبر عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين،
ورغم موت جيفارا الجسد، إلا أن جيفارا الروح والرمز ما زالا على قيد
الحياة.. تحول جيفارا – بدوره – إلى رمز من رموز الثورة على الظلم
والاستبداد، وصارت صورته - التي يبدو فيها بنظرة عينيه وشعره ولحيته
والنجمة على قبعته، رمزًا يتمسك به الحالمون بالحرية في كل بقاع الأرض،
فكيف ولماذا خلع الناس على جيفارا ذلك الرمز؟
بين عبد الناصر وجيفارا تدور الأحداث الآن.. في العام ألف وتسعمائة وخمسة
وستين، زار جيفارا مصر، والتقى الرئيس جمال عبد الناصر، وعبّر جيفارا عن
إعجابه بالنموذج الثوري المصري، الداعم لحركات التحرر في القارة السمراء،
وربطت المصادفات بين جيفارا والشعب المصري، فمن المعروف أنه لم يصبح
ثوريًا ويتعرف بشكل حقيقي على مؤلفات ماركس، إلا بعد تخرجه في الجامعة
كطبيب عام 1952، عام الثورة المصرية. ومقتله على يد القوات البوليفية جاء
في عام 1967 عام النكسة المصرية العربية.
لم يكرر جيفارا زيارته لمصر، لكن الأحداث تربط بينه وعبد الناصر بخيوط من
حرير وأحلام وتطلعات للحرية، بعد وفاة الاثنين بأكثر من ثلاثين عامًا.. ظل
عبد الناصر رمزًا للحاكم النقي الذي خرج من السلطة كما دخلها، فردًا من
أفراد الطبقة المتوسطة، لم يحاول استغلال سلطته ليزداد ثراؤه، وظل رمزًا
من رموز الوحدة، نستحضره كلما آلمنا تفككنا العربي الراهن، وظل جيفارا
رمزًا للثور البلورية التي لم تلوثها المناصب السياسية – على كثرتها -
التي تولاها في كوبا، وربما كان ذلك هو الخيط الرفيع الذي يربط بين
الرمزين: النقاء، وكان هذا أيضًا هو السبب في صمود الرمزين كل هذه السنين
في ضمائر البشر.